بروين حبيب
قد نطرح السؤال بهذه الصيغة: «لماذا نخاف من الاختلاف؟» كما قد نطرحه بصيغة مغايرة، هل الاختلاف مشكلة؟ وبالمقابل علينا أن نتساءل أيضا ما الذي أوصلنا لهذه الفرضية؟ هل كل مختلف عنّا يُشَكِّل تهديدا لوجودنا؟
لقد شكّل الاختلاف دوما قاعدة لنشوء الشكوك نحو الآخر، كأن نعتبرهذا المختلف عدوًّا قبل معرفة نواياه تجاهنا، أو كأن نتصوّر بشاعات سلوكية قد تصدر منه انطلاقا من لونه أو شكله أو معتقده. في تاريخ البشرية، كانت التجمعات القبلية مغلقة، وكان الخوف من الآخر عنصرا يزيد من تماسكها، قامت الحروب بين القبائل لهذا السبب، لأن المختلف شكّل خطرا على مصادر المأكل والمشرب. قد يبدو منطقيا سلوك الإنسان القديم حسب هذه المعطيات، لكن ماذا بشأن معطيات اليوم؟
نسجّل منذ بدء الحروب في مناطق عديدة في العالم، سيلا من الهجرات نحو أوروبا خاصة، بعضها قانوني وآخر لا، يدفع المهاجر الغالي والنّفيس لبلوغ الشواطئ الأوروبية، وقد يدفع حياته ثمنا لتلك المغامرة، بحثا عن حياة كريمة، لكن، وفي حالة نجاته من تلك المغامرة، يدخل في دوّامة جديدة من المخاوف، بسبب كل تلك الاختلافات التي يجد نفسه في مواجهتها، أولها اختلاف الدين، الذي يشكّل العقدة الأساسية والحاجز الأقوى، والمانع الأساسي لاندماجه في المجتمع الجديد، رغم اعتقاده طويلا أنه سيوفر له كل أنواع الحماية والعيش الكريم.
لم يعد ممكنا لهذا الهارب من منظومته الدينية أن يتصرّف على سجيته، فينبعث صوت الأذان من هاتفه على سبيل المثال، وهو يقوم بشراء حاجياته من السوبر ماركت في مدينة أجنبية، سيسارع لتخفيض الصوت، بعد أن لفت إليه أنظار من حوله، وهي في أغلبها أنظار مريبة أو هذا ما يعتقده. كل شيء يصبح مريبا ويثير الشكوك في نفسه في الحقيقة، لون بشرته، وعيناه وشعره، لغته، رائحة أكله المنبعثة من مطبخه، يصبح غريبا في نظر نفسه، انطلاقا من مقارنات خفية تجري في رأسه مع هذا الآخر، الذي يقف أمامه ببشرة بيضاء وعينين ملونتين وشعر أشقر، والذي «لا يعرف حلالا ولا حراما». سلسلة المقارنات تلك تبدأ ولا تنتهي، وهي لا تصبّ في بحر القبول للأسف، كونها لا تنطلق من الافتراض الأساسي الذي يلزم أي شخص بالاعتراف بالتنوع وقبوله للتغلُّب عليه، لذلك يتحوّل إلى مشكلة عويصة قد تجعل الاتصال بين المختلفين عنيفا، وفق درجة الخوف التي يشعر بها أحد الطرفين.
في البيئة ذات الاختلافات الصّارخة، نرى بوضوح ذلك التنوّع العرقي والثقافي، لكنّنا، وإن رأيناه بشكله الطفيف في المجتمع الواحد، فإنّنا نمارس نوعا من القمع الاجتماعي لطمس معالمه الواضحة، وجعله مموَّها، بالتالي فإن التنوع موجود هنا وهناك، ولكنّنا نوهم أنفسنا بعكس ذلك، حتى نعيش بدون مخاوف في منظومتنا المألوفة.
ألم نشعر بالقلق لأننا مختلفون بين ذوينا؟ بسبب إدراكنا أن تصنيفا ما قد تمّ بشأننا. ألا يدرك الثري أنه أقلية بين أخوته الفقراء؟ ألا يدرك العقيم مرارة اختلافه في بيوت أترابه التي تعج بالأطفال؟ ألا توضع العازبة في دائرة الأخطار، حين يفوتها قطار الزواج بين رفيقاتها المتزوجات؟ هذه أيضا اختلافات على تفاهاتها نمنحها أبعادا عميقة في أنفسنا، حتى تصبح منابع للقلق والخوف. ألم نعش صدمة الاحتكاك الأول مع ملحد على سبيل المثال، مرددين ونحن نقسم بأغلظ الإيمان «والله ابن شيخ بعمامة وملحد» وكأن ذلك حدث جلل، يزعزعنا ويكاد يقتلع كل قناعاتنا الدينية من عقولنا وقلوبنا، حتى أننا نتفادى ذلك الملحد مخافة أن نصاب بالعدوى ونصبح مثله. الصدمة الثانية تأتي حين نكتشف أن ذلك الملحد ذو أخلاق عالية، نحتاج لكثير من الوقت للتفاعل مع معتقدات هذا الملحد، حتى نفهم أن الأخلاق لا علاقة لها بالدين واللادين، إنّها معادلة يصعب فهمها نظريا، كوننا لا نخوض في ما يتجاوز إدراكنا الجمعي.
ما يحدث في الواقع أننا نفكّر هكذا: «الشخص الذي لا يشبهني وليس مثلي حتما لديه مشكلة، أو بالأحرى هو مشكلة في حد ذاته» لكن من الخطورة أن نتخيل أن بناء عالم مشترك يبدأ بهذا النوع من الاعتقاد، تحرّكه أسئلة ترفع من درجة هشاشتنا، على نسق «لماذا يعبدون آلهة سخيفة؟» أو «لماذا يكرهونني؟» يجب التّخلص من المصطلحات التي بموجبها نضع أنفسنا كمعيار لمواجهة كل ما يناقض الطبيعة، واعتماد استخدام التنوع كمعيار جمالي لحياتنا.
لنقرّ بأمر مهم يتعلّق بحاجتنا للاختلاف، إنّه بلا شك نابع من غريزة قوية، ولا يمكن قمع الرّغبة فيه، لأنّه بالتأكيد متجذّر فينا، وإلاّ لماذا كلما حاولنا فهم أحد أنواعه اكتشفنا أنواعا جديدة لا تنتهي.
طبعا يظهر التنوع تحت عناوين مختلفة مثل التقاليد، الثقافة، الدين، الجنس، العرق، إلخ… ويفهم من قبل البعض أنه أسلوب حياة خاص، لهذا أي تهديد خارجي لهذا الأسلوب من «الأجنبي المرحّب به» يهدد معيشته، التهديد يأتي من الخارج، ومقاومة ذلك تتم بأساليب كثيرة، قد تكون التخويف بأعمال عنف، كما قد تكون متخفية بإحدى وسائل حماية الحقوق. فكرة الثقافة الواحدة، والعرق الواحد، والدين الواحد سيئة وخطيرة. حين نتحدث باللغة نفسها، ونأكل الأكل نفسه، ونرتدي اللباس نفسه، ونقرأ الكتاب نفسه، وننام ونستيقظ في الأوقات نفسها، ثمّ نصطدم بنظام الطبيعة المتنوع، هل بإمكاننا أن نصمد أمامه؟
في دراسة قام بها بنجامين فيسوكي بروفيسور في كلية الطب في فيينا، تضمنت تقريبا سبعين ألف حالة انتحار تمت خلال أربعين سنة، تبيّن أن حالات الانتحار تزداد في الفترات التي تغيب فيها الشمس بشكل طويل، وهي دراسة وضعت سلطات مسؤولة عن اللاجئين في بلدان كثيرة مثل السويد، موضع العجز أمام ظاهرة ارتفاع عدد المنتحرين القادمين من بلدان الشمس، كون المشكلة هنا متعلّقة بنوع آخر من الاختلاف غير المتوقع، لكن حقيقة صادمة مثل هذه تجعلنا نفهم هذا الأجنبي الباهت اللون الذي يصرف مدخرات سنة من العمل من أجل رحلة إلى بلداننا المشمسة، فيتعرّى «بقلّة حياء» هو وامرأته، وينامان لساعات تحت الشمس حتى تحترق جلودهم. يصدمنا التّعري بدون فهم خلفيته، فنحن نجتهد طيلة أيام السنة للاحتماء من تأثيرات الشمس، حفاظا على لون بشرتنا، حتى جاء فيروس كورونا ليصدمنا هو الآخر، أن جرعة الشمس اليومية ضرورية لأجسادنا، وإلا اضطررنا لتعويض نقصها بأخذ حبوب فيتامين دي، وفيتامينات أخرى تحمي مناعتنا الجسدية والنّفسية.
تظهر المشاكل عندما نبدأ في فرز التنوّعات بشكل تعسفي، لا علاقة له بالحقيقة. فهذا القادم من بلاد لا ترى الشمس إلا نادرا، لا يتعرّى من قلّة أخلاقه، بل لأن قانون الطبيعة يجبره على ذلك لإنقاذ نفسه. وأعتقد أن الأمور يجب أن تقاس هكذا، بإعادتها دوما إلى إطارها الطبيعي، وإلاّ فإن هذا العصر سينفتح على مزيد من العداء، وسوف يصبح التنوّع سببا لبناء مزيد من الجدران وعسكرة الحدود والتحصين ضد التهديدات من الخارج بطرق أكثر خطورة وابتكارا.
لقد كرهنا الصيني الذي أكل الخفّاش عند بداية ظهور فيروس كورونا، وبعد مرور سنة على تلك القصص التي جعلتنا نعتقد أننا الأفضل في مأكلنا ومشربنا، اتضح أن لا نوع مأكل ولا مشرب يجعلنا أفضل حالا، فقد عصفت بنا تقاليدنا الخالية من الحذر ورمت بنا في بحيرة آسنة، ما جعل مصيبتنا أكبر من مصيبة الصين.
لنقرّ بأمر مهم يتعلّق بحاجتنا للاختلاف، إنّه بلا شك نابع من غريزة قوية، ولا يمكن قمع الرّغبة فيه، لأنّه بالتأكيد متجذّر فينا، وإلاّ لماذا كلما حاولنا فهم أحد أنواعه اكتشفنا أنواعا جديدة لا تنتهي. نحن نجازف حين نغفل تماما عن العديد من الأشياء المشتركة بيننا، ساعين لتحقيق نوع من المساواة العقيمة الخالية من الاختلافات والتنوع، بل إن بعضنا على استعداد لتدمير تام لهذا المختلف، قد تصل حدّ تصفيته جسديا، فهل يمكن للتغيير الذي يقوم على جريمة أخلاقية إحلال السلام في أي منظومة اجتماعية؟
لا يمكن للثقافة أن تكون مسألة حتمية، ولا قمعية، ولا إقصائية. إنّها مرتبطة بشكل أساسي بالإنسان ومدى ارتباطه بمكانه وزمانه، أمّا ما نحن مقبلون عليه مستقبلا، وهو خاضع لحركة مفرطة للبشر عبر الكرة الأرضية كلها، فإنّه يطرح قبول الآخر المختلف، كفكرة لبناء فضاء آمن للعيش، أو الانحسار إلى فضاءات مغلقة لم يعد لها وجود إلاّ في المناطق النائية جدا جغرافيا لصعوبة طبيعتها ومناخها.
شاعرة وإعلامية من البحرين