التعافي المقبل يحمل بعض ملامح عشرينيات القرن الماضي، ويجب توخي ألا يتنعم الأغنياء وحدهم بالفوائد منه
فينس كابل
مع اقتراب نهاية موسم تنبؤات الكرة البلورية في العام الجديد، تبين أن إحدى القصص الأكثر استشرافاً تحكي عن أن عام 2021 سيشهد تكرار الازدهار الذي أعقب الجائحة في عشرينيات القرن الماضي. لكن، بعد الإعلان الكئيب مؤخرا، عن مزيد من عمليات الإغلاق الطويلة على الصعيد الوطني، فإن إمكانية حدوث انتعاش كبير تبقى مضللة.
وتتمثل تلك الرؤية الاستشرافية في أن العالم سيخرج (في أشهر الصيف) من نفق كوفيد المظلم، وهو محصن ومرتاح لكونه لا يزال على قيد الحياة، ومستعد أيضاً للشروع في فورة إنفاق كبيرة في الحفلات والمرح المتواصل.
هناك أسباب وجيهة تجعل من النظر إلى الوراء قرناً من الزمان دليلاً محتملاً إلى المستقبل. ويتمثل السبب الأول في أن “الإنفلونزا الإسبانية التي اندلعت بعد الحرب العالمية الأولى شكلت آخر تجربة لنا مع جائحة عالمية مميتة. وربما قضت آنذاك على ما يتراوح بين 20 و50 مليوناً عالمياً، من أصل 500 مليون مصاب (مقابل نحو مليوني وفاة، حتى الآن، بسبب كوفيد، من بين 86 مليون إصابة مثبتة بها). وفي المملكة المتحدة، بلغ عدد الضحايا آنذاك نحو 230 ألفاً (من عدد سكان أقل بكثير)، مقابل 75 ألفاً بسبب كوفيد.
ولم يكن الدمار الذي أحدثته “الإنفلونزا الإسبانية” منتشراً على نطاق أوسع بكثير فحسب، بل إنها لم تميز بين الضحايا بحسب أعمارهم، إذ قتلت كثيراً من الشباب وكبار السن. علاوة على ذلك، لم يفهم ذلك المرض إلا بعد أن بدأ في الانتشار بشكل كبير، لذا جاء رد فعل هيئات الصحة العامة أضعف وأبطأ [من حالتها حاضراً]، ولم يكن هناك غوث من أي لقاح.
وعلى غرار الحالة الآن، أعقبت الجائحة كارثة اقتصادية. وكذلك نشهد الآن أسوأ كارثة اقتصادية منذ 1921 حينما تسببت الآثار المترتبة على الجائحة الأخيرة إلى جانب تراجع التعبئة العامة ومحاولات التمسك بمعيار الذهب، في ركود عميق. ثم انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20 في المئة، وقضى الكساد بشكل تراكمي على نحو 150 في المئة من الدخل السنوي.
لقد استغرق الأمر 15 سنة للعودة إلى المستوى نفسه من النشاط الاقتصادي، ويرجع ذلك نسبياً إلى رفض الحكومات تقبل ضرورة تطبيق السياسات النقدية والمالية التوسعية التي لدينا حاضراً. وحتى مع هذه التدابير، يرجح أن تكون المملكة المتحدة شهدت انخفاضاً بنسبة 12 في المئة في ناتجها المحلي الإجمالي في 2020. وكذلك قد لا يعيدنا التعافي عندما يبدأ في وقت لاحق من هذا العام، إلى مستويات الـ2019 في عقد من الزمان أو أكثر.
ومن دون شك، سيكتسي التعافي بعض ميزات الانتعاش الذي شهده العالم خلال عشرينيات القرن العشرين. ولقد رآكم الميسورون الذين أفلتوا من عمليات التسريح وخسارة الأرباح، مدخراتهم بسبب حالة الغموض وقلة فرص الإنفاق. وبمجرد تحررهم من القيود سوف يبدأون في الإنفاق بشكل كبير، وسيذهب بعضهم إلى حد شراء منازل ثانية أو منازل أكبر، وسيقتصر الأمر مع آخرين على شراء سيارات جديدة وعطلات أسفار باهظة الثمن.
من ناحية أخرى، قد تجد المطاعم ومتاجر السيارات ووكالات الأسفار والنوادي الليلية ومحلات الأزياء والفعاليات الترفيهية العامة التي نجت من الإغلاق، نفسها غارقة تحت الطلب. وأظن أن أحد الرجال الذين وضعوا إصبعهم على نبض الأمة المتسارع هو مالك شركة “راين إير” (شركة الطيران للرحلات الاقتصادية) الذي طلب للتو أسطولاً من الطائرات النفاثة الجديدة كي تنقلنا إلى شواطئ الكاريبي وحدائق الألعاب الأفريقية.
سيكون هناك انفراج مفاجئ من فترة الحرمان وضبط النفس، وسيكون تأثيره على المجتمع شبيهاً بتأثير فرقعة زجاجة شمبانيا. إذ سيرغب الناس في الاستمتاع بالحياة مرة أخرى، بمعنى تناول الطعام والشراب والاستمتاع. في عشرينيات القرن العشرين، حدثت فترة من الاستمتاع وتخفيف معايير الاحتشام في مجالات الموضة والثقافة والجنس. هذه المرة، يمكن أن نتوقع من الشباب على وجه الخصوص، الذين علق حياتهم بهدف إنقاذ كبار السن، أن ينفجروا مرحاً (عندما أو إذا كان لديهم المال).
وعلى نحو مماثل، في القرن العشرين، وفر الانتشار السريع للإذاعة والاتصالات والسيارات والطيران والسينما والموسيقى الشعبية أرضاً خصبة للإبداع والاختراع. في عشرينيات القرن الحالي، من المرجح أن يكون الإبداع والاختراع في المجال الرقمي. هناك ابتكارات كبرى وشيكة في مجالات كالذكاء الاصطناعي و”البيانات الضخمة” والحوسبة الكمومية. وتملك تلك الابتكارات القدرة على تبديل تجربة المستهلك في كل شيء من التسوق إلى الألعاب، إضافة إلى تحقيق تقدم كبير في الطب وعلوم المناخ.
وفي ذلك السياق، ستقلق فكرة الانتعاش الذي يقوده الاستهلاك الخاص، واستهلاك الفئات الميسورة، أولئك الذين رأوا في الجائحة نداء صحوة إلى الحكومة كي تستثمر في البنية التحتية داخل بريطانيا المهمشة، وكذلك معالجة إهمال الفقر وعدم المساواة. ولسوء الحظ، ووفق ما حدث في عشرينيات القرن العشرين أيضاً، تنشغل الحكومة بالديون العامة الموروثة (التي تأتت آنذاك من تكلفة الحرب، وتحدث الآن بسبب الإنفاق العام غير المسبوق، والمرحب به للغاية، بهدف الحفاظ على استمرار الاقتصاد أثناء الإغلاق). لذا، ستكون مفاجأة سارة إذا لم تعمل وزارة الخزانة مرة أخرى على كبح جماح الإنفاق العام في إطار استعدادها لأوقات صعبة.
في المقابل، ثمة ما يختلف إلى حد ما عن عشرينيات القرن الماضي. ويتمثل في استعداد “بنك إنجلترا” لدعم التعافي بشكل أكبر. لكننا اكتشفنا سلفاً أن أحد الآثار الجانبية الرئيسة في طباعة النقود هو تضخيم أسعار الأصول، إذ تصبح الأسهم والممتلكات “ذات قيمة أكبر”، ما يساعد الأثرياء على الازدياد ثراءً. وفي نهاية المطاف وبشكل حتمي، تنفجر فقاعات الأصول. وحتى من دون أن تكون مشحونة جداً بالسياسة النقدية، قدمت العشرينيات المزدهرة [في القرن العشرين] مثلاً رائعاً في أكتوبر (تشرين أول) 1929 عندما وصل الحفل إلى نهايته.
واستطراداً، ثمة اختلاف آخر عن عشرينيات القرن الماضي يأتي من وجود قوة اقتصادية عظمى صاعدة ومختلفة تقود العالم في الخروج من ركود ما بعد كوفيد. وتعتبر الصين (أو الصين الكبرى إذا أضفنا تايوان) الجزء الوحيد من العالم الذي استعاد حالياً نموه الاقتصادي. في المقابل، ينظر معظم المعلقين الغربيين إلى الصين من منظور سياسي يعود إلى زمن الحرب الباردة، ما يحجب أهمية وشكل الانتعاش الاقتصادي الصيني. في هذا الصدد، يتوقع أن يكون للصين تأثير كبير على الثقافة الأوروبية على غرار ما حدث مع الولايات المتحدة في القرن الماضي.
على نحو مماثل، إذا حازت العشرينيات الهادرة صوتاً مميزاً، فسيتأتى من نقر الشباب على هواتفهم الذكية واللعب بالتطبيقات الصينية. وعلى الرغم من محاولة الرئيس ترمب الفاشلة في حظرها، فإن تطبيق “تيك توك” مجرد واحد من موجة الأدوات الرقمية الجديدة التي تشق طريقها آتية من الشرق.
لقد أصبح المستهلك الصيني متقدماً علينا بسنوات عدة. إذ يتسوق عن بعد باستخدام الأجهزة التي تتضمن أيضاً تجربة الدفع ووسائل التواصل الاجتماعي. وسيعمل تجار التجزئة البريطانيون الأذكياء بالفعل على التعاون مع “بيندودو” و”تينسنت” و”شوبيفاي” و”علي بابا”. ووفق ما ورد في مجلة “إيكونوميست” مؤخرا، فإن “المستقبل صيني،” في الأقل عندما يتعلق الأمر بالإنفاق.
وبالطبع، ثمة أمور عدة لا يمكن التكهن بها. يمكننا أن نرى الضوء في نهاية نفق كوفيد، لكن النفق قد يغدو أطول مما يتوقع إذا لم ترق كفاءة التنفيذ إلى مستوى براعة علماء اللقاح. وكذلك لا نستطيع الجزم تماماً بأن اللقاح سيكون فعالاً ضد أي طفرات فيروسية جديدة قد تظهر في الأشهر المقبلة.
وعندما نخرج، أخيراً، ونرمش أعيننا في نور الحياة الطبيعية المبهر، يحتمل أن تكون بعض غرائزنا شديدة الحذر بدلاً من الابتهاج. قد نكون متوترين بما يكفي لجعلنا نركز على التهديد التالي كتغير المناخ، بعد أن رأينا بعض عواقب التلاعب بالطبيعة من دون مبالاة.
واستطراداً، من المؤكد أنه ينبغي على الحكومات ألا تترك الانتعاش تحت قيادة المستهلك الخاص وحده. إذ ينبغي إدارة حفلة العشرينيات [المقبلة] بعناية حتى لا يقتصر المرح على الميسورين في البلدان الميسورة، وكي لا تتأتى عواقب كبيرة من حالة الثمالة في النهاية (على غرار مرحلة “الكساد العظيم” [التي بدأت] في نهاية العشرينيات من القرن الماضي).
© The Independent