على سبيل تذكّر بغداد في زمن الستينيات

حسن داوود

فيما راح الروائي يوصل بطلَه قاسم حسين إلى إحدى الحانات الصيفية الواقعة على الرصيف الأيسر من شارع أبي نواس، حرص على أن نرافقه، نحن قرّاءه، خطوة خطوة، على طول الطريق. هي خريطة مفصّلة لذلك الجانب من بغداد، ذكر فاضل العزاوي أنحاءها بالأسماء. ولم يتوقّف الروائي فاضل العزاوي عند ذلك التعيين في ما تلى من صفحات، فقد عاد إليه مرّات، بل إنه حرص على تلك العودة عند كل انتقال لبطله من مكان إلى مكان، من مديرية الأمن العام غالبا، حيث يعمل معاونا في مخفر الشرطة، إلى المقاهي المختلفة التي يتنقل بينها. في أحيان كان يبدو ذلك فائضا عما يلزم للرواية، حيّزا خاصا تركه فاضل العزاوي لنفسه ملتذّا بالتذكر بعد طول غياب عن العراق. وذلك يظهر متسما بكثير من الحنين، عند وصف خروج سكان المدينة في عصاري أيام الصيف حيث «ألوف مؤلفة من الرجال والنساء والأطفال يملأون أرصفة شارعي الرشيد والسعدون، سائرين في اتجاهات متعاكسة وموحين في الوقت ذاته بأنهم لم يتركوا بيوتهم، إلا طلبا لمتعة السير وليس بحثا عن هدف محدد بالذات».
هي بغداد ذلك الزمن، زمن الستينيات، الذي تغير الآن، لا بدّ، وإلا لماذا الإمعان في إضفاء طابع التأسف والخسارة، الخفي وغير الظاهرعلنا على أي حال. لكن رغم ذلك لم يكن الحنين صافيا تجاه ذلك الزمن، فعلى مقربة من المشهد العام للبشر والأمكنة هناك الفساد الناخر والمستدرِج. في بداية الرواية كان يبدو المعاون قاسم حسين متفرّدا في نزاهته عن الذين يرأسهم ويرأسونه. كان يرفض ذلك الترحيب الزائد عن الحاجة الذي يبديه له نادل المقهى، لإصراره على أن يُعامل كزبون عادي. هو الموظف النموذجي في مديرية يصعب على موظفيها الصمود إزاء الإغراءات المتاحة، ربما لأنه لم يكن طامحا لشيء. أما عزلته الشخصية فلا تتناسب مع كونه مقيما في المحيط الصاخب العنيف لعمله، حيث الاعتقال والتعذيب والسوق إلى السجن. في الرواية تبدو عزلته أشبه بعزلة مثقف محبَط، أو برجل لم يتخلّص من ماضيه الشخصي. لكن صديقه الأقرب، جليل محمود، هو الآن سجينه.

هل يدعونا فاضل العزاوي إلى قراءة ما كان بداية لما نحن فيه الآن؟ هل أنّ ذلك الاتجاه في الكتابة صار تقليدا يُستعاد على غرار ما تستعاد أنماط كتابية بصرف النظر عن تأثرها بما يستجدّ؟

كان يسعى إلى أن يحسن معاملته حين أتاه أمر من مديره أن يقسو على صديقه ذاك لينتزع اعترافه. كما أنه، بداع آخر إلى السقوط في الفساد، التقى هدى زوجة جليل، السجين المناضل. من دون مقدمات سابقة، انهال المعاون قاسم على صديقه بالضرب العنيف، ثم في الأيام التي فتحت نافذة أخرى للفساد، إثر التعرف على هدى، زوجة ذلك الصديق، ونشأت بينه وبينها علاقة كانت هي مستعدة أصلا للانخراط فيها. أما هو فوجد عذرا لنفسه قائما على تفكير منطقي في الظاهر: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنه رفض العلاقة بها، بداعي الوفاء لصديقه؟ «لا شيء، سوى أن هدى كانت ستعثر بالتأكيد على رجل آخر لتخون معه الرجل الذي كان يحلم بتغيير العالم».
ها هو المعاون قاسم حسين يجد حجة لخيانته، بعد إعمال المنطق والعقل. هل كان عليه أن يدير الظهر لإلحاح رغبته «بوهم شبيه بوهم جليل محمود» المُخان أصلا بعدما تبين أن زوجته كانت مستعدة لذلك، لم يكن المعاون يحسب أن التفكير السليم ذاك مسقط لأخلاق كان هو من حامليها، وأن التفكير السليم ذاك مستدرِج إلى قرار لن ينتهي إلا ببلوغ الحضيض. بعد تردٍّ متتال وجد المعاون نفسه مطرودا من سلك الشرطة وممنوعا من دخول مقرّه. وها هم أولئك الذين كانوا يخشون سطوته يعتدون عليه بالضرب فيسقط نازفا «نصفه فوق إسفلت الشارع ونصفه الآخر فوق الطريق».
لا ريب في أن الفساد، المجتمعي والشخصي، قد قطع أشواطا يصعب حسابها قياسا على ما كان الحال في سنوات الستينيات، سواء في العراق أو في سواه (إرجاع زمن الرواية إلى ذلك العقد من القرن الفائت يعود إلى حرب 1967، وقد ورد ذكرها، كما ذكر أثرها في انهيار معنويات الأجيال التي عاشتها، في سياق تتابع أحداث الرواية). لكن لماذا آثر فاضل العزاوي أن يرجع إلى هناك، إلى ما بات حقبة ماضية لم يقصّر الأدب المعاصر لها في الاستغراق في تناولها.
هل يدعونا فاضل العزاوي إلى قراءة ما كان بداية لما نحن فيه الآن؟ هل أنّ ذلك الاتجاه في الكتابة صار تقليدا يُستعاد على غرار ما تستعاد أنماط كتابية بصرف النظر عن تأثرها بما يستجدّ؟
٭ «مدينة من رماد» رواية فاضل العزاوي صدرت عن منشورات الجمل في 173 صفحة، لسنة 2021.

٭ روائي لبناني