حات باستخدام المعدن الأصفر لمواجهة الأزمة الاقتصادية ومخاوف من تبديده
فتحت الأزمة المالية والنقدية المستفحلة في لبنان خزائن الذهب في المصرف المركزي، فالاحتياطي الذي كان منذ زمن قريب من المحظورات أصبح مطروحاً على طاولة المفاوضات في ظل تعثّر الحكومة الحالية المستقيلة من القيام بأي إصلاح يمهّد الطريق أمام مساعدات دولية تحدّ من شح السيولة بالعملات الأجنبية وتعيد إطلاق العجلة الاقتصادية. فالانكماش متوقع أن يفوق 20 في المئة خلال عام 2020 من انكماش عند حدود 7 في المئة سجّل عام 2019.
ومع استمرار تدهور الوضع المالي اللبناني واستنزاف الاحتياطي النقدي لدعم المواد الأساسية وبلوغه مستويات غير مسبوقة، يبرز الذهب كثروة للبنانيين قد تقيهم جهنّم تفلّت الأسعار وفقدان أبسط مقومات العيش الكريم. ولكن استعمال الذهب، سيف ذو حدين ودونه عقبات عدة.
يملك لبنان، بحسب أحدث بيانات “مجلس الذهب العالمي”، احتياطياً من الذهب يبلغ نحو 287 طناً أي حوالى 10 ملايين أونصة تبلغ قيمتها نحو 18 مليار دولار، ما يضع البلاد ضمن قائمة أكبر 20 دولة حول العالم، تحوز على احتياطيات من المعدن الأصفر.
ويحتفظ لبنان بثلث احتياطي الذهب في قلعة “فورت نوكس” الخاضعة لحراسة أميركية، فيما أبقى على الثلثين في خزائن المصرف المركزي في بيروت.
ويعود الفضل في تكوين هذه الثروة إلى رئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس، الذي أدخل بلاده إلى نادي الدول الذهبية بعد شرائه خمسة ملايين أونصة لحساب الخزانة حين كان حاكماً لمصرف لبنان في ستينيات القرن الماضي. لاحقاً عمدت الحكومات المتعاقبة إلى شراء المزيد لزيادة احتياطي الذهب لدى البنك المركزي ليتوقف هذا المسار في أوائل السبعينيات مع قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الذهب بالدولار نتيجة الضغط المتزايد على شرائه من قبل الدول.
ذهب لبنان بأمان ولكن…
يؤكد نائب الحاكم السابق لمصرف لبنان الدكتور غسان العياش أن حوالى 6.6 مليون أونصة من الذهب محفوظة في غرفة مسلحة في مبنى البنك المركزي وهي عبارة عن سبائك بأوزان مختلفة وأونصات وعملات ذهبية. “خزّان الذهب ليس معروضاً أمام العموم”، يتابع العياش “بل هناك تحفظ عليه لأسباب أمنية. وهو محميّ جيداً، بالتالي لا إمكانية لسرقته”.
وأوضح أنه في “كل فترة زمنية تُجرى جردة للذهب، يشارك فيها أربعة أشخاص هم حاكم مصرف لبنان ومدير الخزانة ونائب مدير الخزانة ومدير التفتيش وتتمّ عملية الجرد حكماً بحضور مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان. وليس هناك أي قانون أو نصّ يحدد تاريخ إجرائها”.
وكان مجلس النواب اللبناني شهد بلبلةً في الأيام الماضية على خلفية سؤال أحد النواب عن تاريخ آخر جردة للسبائك الذهبية الموجودة في “المركزي”، بخاصة عندما أتى الردّ من أحد نواب الحاكم أن آخر تدقيق جرى عام 1996.
ويستغرب العياش الكلام عن قيام شركتي التدقيق المالي “كاي بي أم جي” (KPMG) و”أوليفر وايمان” (Oliver Wyman) اللتين تعاقد معهما لبنان، بإحصاء أطنان الذهب في خزائن “المركزي”، فبحسب معلوماته، “ليس هنالك أي عملية جرد جارية حالياً، كما أن آخر تعداد للذهب يعود إلى عام 1993 وليس بعده”.
وحات للاستفادة من الذهب
من جهة أخرى، يبيّن العياش أن “من بين الطروحات الممكنة لمواجهة الأزمة المالية الحالية، رهن بعض الذهب، ولكن هذا الحلّ لا يجلب موارد مهمّة للدولة، وعمليات الرهن معروفة في السوق المالية”.
أما عن طرح بيع الذهب، فيؤكد أنه ممنوع، لأن مجلس النواب أصدر قانوناً عام 1988 حظر فيه بيع الذهب أو التصرف به إلا بقانون. يضاف إلى ذلك إجماع الرأي العام على استحالة بيع الذهب والتصرّف به جزئياً أو كلّياً إلا بقانون يصدر عن السلطة التشريعية.
الذهب لم يعد ضمانة للنقد
منذ السبعينيات، لم تعُد العملات مضمونة بالذهب بعدما بادرت الولايات المتحدة إلى إلغاء التغطية الذهبية للدولار، بحسب نائب الحاكم السابق. فالليرة اللبنانية ولِدت عام 1948 بعد الانفصال النقدي بين سوريا ولبنان. وقتها كان القانون اللبناني يفرض تغطية خمسين في المئة من النقد المُصدَر عن بنك الإصدار، “بنك سوريا ولبنان”، بالذهب والعملات الأجنبية. كما فرض “قانون النقد والتسليف” الذي صدر عام 1963 نسباً للتغطية. إلا أن هذه النصوص لم يعد معمولاً بهاـ فالليرة اللبنانية باتت عائمة كلّياً ككل العملات في النظم الاقتصادية الحرّة. ففي الماضي كان الاعتقاد سائداً، ولفترة طويلة، بأن احتياطي الذهب هو ضمانة الليرة اللبنانية وثبات سعرها، وقد يكون ذلك صحيحاً عندما كان حجم الذهب متناسباً مع حجم الكتلة النقدية والناتج المحلي القائم. أما وقد تضخم حجم الكتلة النقدية وأصبحت التغطية بالمعدن الأصفر هزيلة، فلم يعُد احتياطي الذهب يشكّل ضمانة حقيقية لليرة.
الذهب اللبناني في الولايات المتحدة
أودع لبنان حوالى 3.3 مليون أونصة من الذهب، أي ثلث احتياطيه في الولايات المتحدة، وهو ملك لــ”المركزي”، يتصرف به كما يشاء، وفق ما أكد العياش. ولكن المعلومات تفيد بأن أميركا لا تفرج عن الذهب العائد إلى الحكومات الأجنبية تلقائياً عند طلب الأخيرة ذهبها، وبعض الدول انتظرت سنوات قبل تلبية رغبتها في استرجاع مخزونها من المعدن الأصفر.
والمشكلة الأهم هي أن الدولة اللبنانية عندما بدأت بالاقتراض بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) قبلت في عقود الاقتراض أن تبتّ النزاعات في حال حصولها، أمام محاكم نيويورك. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى حجز الذهب المحفوظ هناك في حال حصول خلاف مع الدائنين. وهنا يتابع العياش، “سيحتج مصرف لبنان بأن الذهب ملك له وليس للدولة اللبنانية وأنه مؤسسة مستقلة، وسيعود بتّ هذه المشكلة الشائكة إلى محاكم نيويورك”.
القانون اللبناني يمنع التصرف بالذهب
في سياق متصل، صرح رئيس جمعية “جوستيسيا” الحقوقية، المحامي بول مرقص، أنه “في عام 1986 بعهد الرئيس أمين الجميل صدر نص تشريعي عن مجلس النواب يمنع التصرف بالذهب مطلقاً. وبصريح العبارة، ربط القانون حيازة الذهب بالمصرف المركزي لحمايته من الملاحقات الدولية التي قد تصدر بحق الدولة اللبنانية. وبموجب القوانين الدولية، وكون مصرف لبنان مؤسسة مستقلة، لن يعود بإمكان الدائنين الدوليين حتى الحجز عليه”.
وشدد مرقص على أن “حماية الذهب يجب أن تستمر طالما لم يتحقق قيام إدارة رشيدة في لبنان، ووضع خطة حول كيفية التصرف بالذهب على نحو غير تبديدي، أي الاستثمار في الذهب ووضعه كمحفظة مقابل استثمارات في لبنان وليس ضياعه كما يجري حالياً مع استنزاف الاحتياطيات النقدية الأجنبية للبنك المركزي”.
اندبندنت