الشوارع خالية كما لم تكن والمدن خاوية على عروشها والاجتماع البشري خطر
سان أقسى الشهور، يخُرج
الليلك من الأرض الموات، يمزج
الذكرى بالرغبة، يحرك
خامل الجذور بغيث الربيع
من قصيدة الأرض الخراب للشاعر ت.س. إليوت
ظننت لأكثر من مرة، أنني وقد ولدت ما بعد الحرب الكبرى الثانية، وهيروشيما، فقد نجوت من آخر خراب للأرض. كما ظن شاعر القصيدة الأشهر، الأنجلو أميركي ت.س. إليوت وغيره، ما بعد الحرب الكبرى الأولى، وجائحة الإنفلونزا الإسبانية.
لكن الأرض خراب، قبل وبعد الحربين، وقد استشف الشاعر أن “أبريل أقسى الشهور”، لكنه ما يخرج الليلك من الأرض الموات.
هكذا ولدت فعشت، ما ظننت أن لا يكون. حتى الآن، لم أعش الحرب العالمية الكبرى الثالثة، لكن في ظني أني عشتها منجمة، وعلى فصول السنة وأعوام العمر، لقد كنت صبياً حين حلت نكسة، قيل إنها هي النكبة مكثفة، لكن النكبة ما لم أعش، وكانت عام 1948، التي ظن العرب أنها آخر النكبات.
ثم توالت الرزايا في دنيا العرب وكل الناس، ما إن يخرجوا من حرب ليدخلوا ثانية. فقد كانت الحرب بعيدة أحياناً لكنها عند باب البيت، كالحرب الفيتنامية، التي جعلت كل البشرية تنزف فجيعة، بعد أن خاب ظنها بأن ما بعد هيروشيما ليس كما قبلها، بخاصة أن الهلع ضرب قلب البشر في أزمة خليج الخنازير عام 1961، حيث وضع الاتحاد السوفياتي أنيابه النووية، في خصر الولايات المتحدة/ جزيرة كوبا.
كان توازن الرعب، هو السلام الذي رضي به أهل الكرة الأرضية، لكن جيل الستينيات تنبه من حرب فيتنام، بخاصة أن الأنياب النووية خطر لا توازن فيه، لهذا عمت شوارع أوروبا وأميركا الاحتجاجات، ضد تلك الأنياب وحامليها، مما أنتج بعض الاتفاقيات بين النوويين الأكبرين في العالم، للحد من هذا التسلح النوعي.
في هذه اللحظة، ظن فوكوياما بـ”نهاية التاريخ”، حين سقط الاتحاد السوفياتي، نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، منهياً دولة العدو الأول للعالم الحر، ما جعل الدول الرأسمالية تظن بانتصارها والليبرالية، فيما ارتعب ما كان عندئذ يُعرف بالعالم الثالث، من فقده توازن الرعب.
هكذا كانت ظنون كافة الناس، أن شر بلية حرب تنتهي بمصاب هيروشيما، لكن هذه المرة ستكون الضربة القاصمة، فقد انتشر ذلك الطفح عند دول كبرى، وحتى صغرى كإسرائيل وباكستان. وعندما كان حال البشرية في ضيق، اجتاحت الأرض جائحة الإيدز. الخضر، قوم حماية البيئة، فجعوا، فغير خطر ثقب الأوزون، الخطر الأخطر مرض من الممكن أن ينتشر مجتاحاً الحدود. ثم تتالت الجوائح كإنفلونزا الطيور… وهلم جرا.
ظننت أن المصاب الأكبر قد ولى، من دون حرب كبرى ثالثة ولا حرب نووية صغرى، لكن الجائحة فأختها أصابت كبد الحقيقة البشرية، فكبدي، أن الأخطار باتت تأتي فرادة ولكن متتالية، بعد الإيدز، جاء الإرهاب والثورات والحروب الأهلية وكان العالم قد تبلقن عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، وقد اعتقد العقائديون السوفيات وأتباعهم أن التحريفيين، وCIA، قد تحالفوا مع مخائيل غورباتشوف لتفكيك دولة الشيوعية/ الجنة الموعودة.
لم أكن أظن البتة، أن أقسى سنوات العمر في علم الغيب، وأني سأعيش وأرى بعيني ما لم يُر قبلاً، الشوارع خالية كما لم تكن، المدن خاوية على عروشها، والاجتماع البشري خطر. كل ما حدث إثر إعلان حرب فيروس كورونا، لم يره أحد ولا خطر في ظن بشر. كل ما سبق من رزايا وحروب عرف ما يُماثله قبل، حتى هيروشيما، يمكن تعريفها من دون حرج أنها قنبلة هائلة. لكن كورونا ليس قنبلة أبداً، ولا هائلة بالمطلق، فإذاً ما حدث ويحدث ما هو؟ ليس “القيامة الآن” (1979)، فيلم المخرج الأميركي فرانسيس كوبولا المقتبس عن الرواية الشهيرة “قلب الظلام” لجوزيف كونراد، الذي اعتبر من أهم الأفلام السينمائية. أي أن الإبداع والمخيلة لم يتمكنا من كورونا، الذي باغت المخيلة البشرية أيضاً.
منذ ذا وليس غيره، سنة 2020، وهي تغادرنا، أقسى السنوات، ومن قصيدة “الأرض الخراب” أن:
“نيسان أقسى الشهور، يخُرج
الليلك من الأرض الموات، يمزج
الذكرى بالرغبة، يحرك
خامل الجذور بغيث الربيع”
وأن “الأمر الأساس، الذي تشترك فيه البشرية كلها، هو قدرتها على احتمال الألم”، كما يقول ويليام ديفيز.
وأزيد فأوكد أن الخطر يحفز الإنسان، لكن بزواله يُنسى، النسيان أقوى عند الإنسان من الخطر، وكنتيجة لما حدث، يمكن أن يرتد البشر إلى الماضي، ما يسمى عندنا بـ”الزمن الجميل”، يتغنون بما مضى، فحتى الجنة الموعودة استعادة للماضي المفقود، كما أن الآداب والفنون تغترف من بئر الزوال. لهذا في مقابل واقعية سحرية قد نبتدع واقعية الخطر مثلاً، لكن هذا لن يكون من رحم اللحظة، بل من رحم ما يتهدد البشرية وتختزله اللحظة. سأذكرك بأسطورة الطوفان، التي منحت الكثير لمخيلة المبدعين، منذ عصر الأساطير الأولى، وحتى عصر الأسطورة المرئية، كما في السلسلة السينمائية “حرب النجوم”. جوزيف كامبل، فيلسوف الأسطورة، يرى أن الحاجة هي صانعة الأساطير، والآداب شيء من الأساطير، على هذا ستغترفُ من الجائحة، تغترف الأسطورة التي سنصدرها إلى الأجيال المقبلة.
الاندبينتدنت